فى بيان جهة تأثير هذه الأدوية فى هذه الأمراض
خلق الله سبحانه ابن آدمَ وأعضاءَه ، وجعل لكل عُضو منها كمالاً إذا فقده أحسَّ بالألم ، وجعل لِمَلِكها وهو القلب كمالاً ، إذا فقده ، حضرتْه أسقامُه وآلامُه من الهموم والغموم والأحزان .فإذا فقدت العَيْنُ ما خُلِقَتْ له مِن قوة الإبصار ، وفقدت الأُذنُ ما خُلِقتْ له مِن قوة السَّمْع ، واللِّسَانُ ما خُلِقَ له مِن قُوَّة الكلام ، فقدتْ كمالَها
والقلبُ : خُلِقَ لمعرفةِ فاطره ومحبته وتوحيده والسرور به ، والابتهاج بحبه ، والرضى عنه ، والتوكل عليه ، والحب فيه ، والبغض فيه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، ودوام ذكره ، وأن يكون أحبَّ إليه مِن كل ما سواه ، وأرْجَى عنده مِن كل ما سواه ، وأجَلَّ فى قلبه مِن كل ما سواه ، ولا نعيمَ له ولا سرورَ ولا لذَّةَ ، بل ولا حياة إلا بذلك ، وهذا له بمنزلة الغِذاء والصحة والحياة ، فإذا فَقَدَ غذاءه وصحته وحياته ، فالهمومُ والغموم والأحزان مسارعةٌ مِن كل صَوْبٍ إليه ، ورهْنٌ مقيم عليه .
ومن أعظم أدوائه : الشِّركُ والذنوبُ والغفلةُ والاستهانةُ بِمَحابِّه ومَراضيه ، وتركُ التفويض إليه ، وقِلَّةُ الاعتماد عليه ، والركونُ إلى ما سواهُ ، والسخطُ بمقدوره ، والشكُّ فى وعده ووعيده .
وإذا تأملتَ أمراض القلب ، وجدتَ هذه الأُمور وأمثالها هى أسبابُها لا سببَ لها سِواها ، فدواؤه الذى لا دواءَ له سواه ما تضمنتْهُ هذه العلاجات النبوية من الأُمور المضادة لهذه الأدواء ، فإنَّ المرضَ يُزال بالضد ، والصِّحةُ تُحفظ بالمِثْل ، فصحتُه تُحفظ بهذه الأُمور النبوية ، وأمراضُه بأضدادها .
فالتوحيد .. يفتح للعبد بابَ الخير والسرور واللَّذة والفرح والابتهاج ، والتوبةُ استفراغٌ للأخلاط والمواد الفاسدة التى هى سببُ أسقامه ، وحِميةٌ له من التخليط ، فهى تُغْلِق عنه بابَ الشرور ، فيُفتَح له بابُ السعادة والخير بالتوحيد ، ويُغْلَق باب الشرور بالتوبة والاستغفار .
قال بعض المتقدمين من أئمة الطب : مَن أراد عافية الجسم ، فليقلِّلْ مِن الطعام والشراب ، ومَن أراد عافية القلب ، فليترُكْ الآثام .
وقال ثابت بن قُرَّةَ : راحةُ الجسم فى قِلَّة الطعام ، وراحةُ الرَّوح فى قِلَّة الآثام، وراحةُ اللِّسان فى قِلَّة الكلام .
والذنوبُ للقلب ، بمنزلة السُّموم ، إن لم تُهلكْه أضعفتْه ، ولا بُدَّ ، وإذا ضعُفت قوته ، لم يقدرْ على مقاومة الأمراض ، قال طبيبُ القلوب عبدُ الله ابن المُبارَك :
رَأَيْتُ الذنُوبَ تُمِيتُ الْقُلـُوبَ وَقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمَانُهـَا
وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَيَاةُ الْقُلـُوبِ وَخَيرٌ لِنَفْسِــكَ عِصْيَانُهَا
فالهوى أكبرُ أدوائها ، ومخالفتُه أعظمُ أدويتها ، والنفس فى الأصل خُلِقَتْ جاهلة ظالمة ، فهى لجهلِها تظن شِفاءَها فى اتباع هواها ، وإنما فيه تلفُها وعطَبُها ، ولظلمِها لا تقبل مِن الطبيب الناصح ، بل تضَعُ الداء موضِعَ الدواء فتعتمده ، وتضعُ الدواء موضع الداء فتجتنبه ، فيتولَّدُ مِن بين إيثارِها للداء ، واجتنابِها للدواء أنواعٌ من الأسقام والعِلل التى تُعيِى الأطباء ، ويتعذَّرُ معها الشفاء . والمصيبةُ العظمى ، أنها تُرَكِّبُ ذلك على القَدَر ، فتُبرِّىء نفسَها ، وتلومُ ربَّها بلسان الحال دائماً ، وَيقوَى اللَّومُ حتى يُصرِّحَ به اللِّسان .
وإذا وصل العليلُ إلى هذه الحال ، فلا يُطمَع فى بُرئه إلا أن تتداركه رحمة من ربه ، فيُحييه حياةً جديدة ، ويرزقُه طريقةً حميدة ، فلهذا كان حديث ابن عباس فى دُعاء الكرب مشتملاً على توحيد الإلهية والربوبية ، ووصف الرب سبحانه بالعظمة والحلم ، وهاتان الصفتان مستلزمتان لكمال القُدرة والرحمة ، والإحسان والتجاوز ، ووصفِه بكمال ربوبيته للعالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ ، والعرش الذى هو سقفُ المخلوقات وأعظمها . والرُّبوبية التامة تستلزِمُ توحيدَه ، وأنه الذى لا تنبغى العبادةُ والحبُّ والخوفُ والرجاء والإجلال والطاعة إلا له . وعظمتُه المطلقة تستلزمُ إثباتَ كل كمال له ، وسلبَ كل نقص وتمثيل عنه . وحِلمُه يستلزم كمال رحمته وإحسانه إلى خلقه .
فعِلْمُ القلب ومعرفتُه بذلك توجب محبته وإجلاله وتوحيدَه ، فيحصل له من الابتهاج واللَّذة والسرور ما يدفع عنه ألم الكرب والهم والغم ، وأنت تجدُ المريض إذا ورد عليه ما يسرُّهُ ويُفرحه ، ويُقوِّى نفسه ، كيف تقوى الطبيعة على دفع المرض الحسِّى ، فحصولُ هذا الشفاء للقلب أولى وأحرى .
ثم إذا قابلتَ بين ضيق الكرب وسعة هذه الأوصاف التى تضمَّنها دعاءُ الكرب ، وجدته فى غاية المناسبة لتفريج هذا الضيق ، وخروج القلب منه إلى سعَةِ البهجة والسرور ، وهذه الأُمورُ إنما يُصدِّق بها مَن أشرقت فيه أنوارُها ، وباشر قلبُه حقائقَها .
وفى تأثير قوله : ((يا حىُّ يا قَيُّومُ ، برحمتِك أستغيثُ)) فى دفع هذا الداء مناسبة بديعة ، فإنَّ صفة الحياة متضمِّنةٌ لجميع صفات الكمال ، مستلزمة لها ، وصفة القَيُّومية متضمنة لجميع صفات الأفعال ، ولهذا كان اسمُ الله الأعظمُ الذى إذا دُعىَ به أجاب ، وإذا سُئِلَ به أعطى : هو اسمُ الحَىّ القَيُّوم ، والحياة التامة تُضاد جميعَ الأسقام والآلام ، ولهذا لَمَّا كَمُلَتْ حياة أهل الجَنَّة لم يلحقهم هَمٌ ولا غَمٌ ولا حَزَنٌ ولا شىء من الآفات . ونقصانُ الحياة تضر بالأفعال ، وتنافى القيومية ، فكمالُ القيومية لكمال الحياة ، فالحىُّ المطلق التام الحياة لا يفوتُه صِفة الكمال ألبتة ، والقَيُّوم لا يتعذَّرُ عليه فعلٌ ممكنٌ ألبتة ، فالتوسل بصفة الحياة والقَيُّومية له تأثيرٌ فى إزالة ما يُضادُّ الحياة ، ويضُرُّ بالأفعال .
ونظير هذا توسلُ النبى صلى الله عليه وسلم إلى ربه بربوبيته لجبريلَ ومِيكائيلَ وإسرافيلَ أن يَهدِيَه لما اختُلِفَ فيه من الحق بإذنه ، فإنَّ حياة القلب بالهداية ، وقد وكَّل الله سبحانه هؤلاء الأملاك الثلاثة بالحياة ، فجبريلُ موَّكلٌ بالوحى الذى هو حياةُ القلوب ، وميكائيل بالقَطْر الذى هو حياةُ الأبدان والحيوان ، وإسرافيل بالنَّفْخ فى الصُّور الذى هو سببُ حياةِ العالَم وعَودِ الأرواح إلى أجسادها ، فالتوسل إليه سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة ، له تأثير فى حصول المطلوب .
والمقصود : أن لاسم الحىّ القَيُّوم تأثيراً خاصاً فى إجابة الدعوات ، وكشف الكُربات .
وفى ((السنن)) و((صحيح أبى حاتم)) مرفوعاً : ((اسمُ اللهِ الأعْظَم فى هاتَيْنِ الآيتين : {وَإلهُكُمْ إلهٌ وَاحِدٌ ، لا إلهَ إلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة : 163]، وفاتحةِ آلِ عمران : { آلم * اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هُوَ الْحَىُّ الْقَيُّومُ}[آل عمران : 1-2]، قال الترمذىُّ : حديث صحيح
وفى ((السنن)) و((صحيح ابن حِبَّان)) أيضاً : من حديث أنس أنَّ رجلاً دعا ، فقال : اللَّهُمَّ إنِّى أسألُكَ بأنَّ لَكَ الْحَمْدَ ، لا إلَهَ إلا أنتَ المنَّانُ ، بديعُ السَّمواتِ والأرضِ ، ياذا الجلال والإكرام ، يا حىُّ يا قَيُّومُ ، فقال النبى صلى الله عليه وسلم : ((لقد دَعَا اللهَ باسمِهِ الأعْظَم الذى إذا دُعِىَ به أجابَ ، وإذا سُئِلَ به أعْطَى)) .
ولهذا كان النبىُّ صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد فى الدعاء ، قال : ((يَا حىُّ يا قَيُّومُ)) .
وفى قوله : ((اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو ، فلا تَكِلْنى إلى نفسى طَرْفَةَ عَيْنٍ ، وأصْلِحْ لى شأنى كُلَّهُ لا إلهَ إلاَّ أنتَ)) من تحقيق الرجاء لمن الخيرُ كُلُّهُ بيديه والاعتمادُ عليه وحده ، وتفويضُ الأمر إليه ، والتضرع إليه ، أن يتولَّى إصلاح شأنه ، ولا يَكِلَه إلى نفسه ، والتوسُّل إليه بتوحيده مما له تأثيرٌ قوى فى دفع هذا الداء ، وكذلك قوله : ((اللهُ ربِّى لا أُشْرِكُ بِه شَيْئاً)) .
وأما حديث ابن مسعود : ((اللَّهُمَّ إنِّى عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ)) ، ففيه من المعارف الإلهية ، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب ، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته ، وأنَّ ناصيته بيده يُصرِّفها كيف يشاء ، فلا يملِك ُ العبدُ دونه لنفسه نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ولا حياةً ، ولا نُشوراً ، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره ، فليس إليه شىءٌ من أمره ، بل هو عانٍ فى قبضته ، ذليل تحت سلطان قهرِه .
وقوله : ((ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ)) متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد .
أحدهما : إثباتُ القَدَر ، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ فى عبده ماضيةٌ فيه ، لا انفكاكَ له عنها ، ولا حِيلةَ له فى دفعها .
والثانى : أنه سبحانه عدلٌ فى هذه الأحكام ، غير ظالم لعبده ، بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل والإحسان ، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم ، أو جهلُه ،أو سفهُه ، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل شىء عليمٌ ، ومَن هو غنىٌ عن كل شىء ، وكلُّ شىء فقيرٌ إليه ، ومَنْ هو أحكم الحاكمين ، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده ، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته ، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته ، ولهذا قال نبىُّ الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم ، وقد خَوَّفه قومُه بآلهتهم :{إنِّى أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّى بَرِىءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *مِن دُونِهِ ، فَكِيدُونِى جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إنِّى تَوَكَّلْتُ علَى اللهِ رَبِّى وَرَبِّكُم * مَّا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ، إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}[هود : 54-57] ، أى مع كونه سبحانه آخذاً بنَواصى خلقه وتصريفهم كما يشاء ، فهو على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة ، والإحسان والرحمة . فقوله : ((ماضٍ فىَّ حُكْمُكَ)) ، مطابقٌ لقوله : {مَا مِن دَابَّةٍ إلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ، وقولُه : ((عَدْلٌ فِىَّ قضاؤكَ)) ، مطابقٌ لقوله :
{إنَّ رَبِّى عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [هود : 57] ، ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التى سمَّى بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا . ومنها : ما استأثره فى علم الغيب عنده ، فلم يُطلع عليه مَلَكاً مُقرَّباً ، ولا نبيّاً مرسلاً ، وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل ، وأحبُّها إلى الله ، وأقربُها تحصيلاً للمطلوب .
ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذى يرتَع فيه الحيوانُ ، وكذلك القرآنُ ربيعُ القلوب ، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه ، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذى يستأصِلُ الداء ، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله ، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذى يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها ، فأحْرَى بهذا العلاج إذا صدق العليل فى استعماله أن يُزيلَ عنه داءه ، ويُعقبه شفاءً تاماً ، وصحةً وعافيةً .. والله الموفق .
وأما دعوةُ ذى النون .. فإنَّ فيها من كمال التوحيد والتنزيه للربِّ تعالى ، واعترافِ العبد بظلمه وذنبه ما هو من أبلغ أدويةِ الكَربِ والهَمِّ والغَمِّ ، وأبلغِ الوسائل إلى الله سبحانه فى قضاء الحوائج ، فإنَّ التوحيدَ والتنزيه يتضمنان إثبات كل كمال للهِ ، وسلبَ كُلِّ نقصٍ وعيب وتمثيل عنه . والاعترافُ بالظلم يتضمَّن إيمانَ العبد بالشرع والثواب والعقاب ، ويُوجب انكسارَه ورجوعَه إلى الله ، واستقالته عثرتَه ، والاعترافَ بعبوديته ، وافتقاره إلى ربه ، فههنا أربعةُ أُمور قد وقع التوسلُ بها : التوحيد ، والتنزيه ، والعبودية ، والاعتراف .
وأما حديث أبى أمامة : ((اللَّهُمَّ إنِّى أعوذُ بِكَ مِنَ الهَمِّ والحَزَنِ)) ، فقد تضمَّن الاستعاذة من ثمانية أشياء ، كُلُّ اثنين منها قَرينان مزدوجان ، فالهمُّ والحَزَنُ أَخوان ، والعجزُ والكسلُ أخوان ، والجُبنُ والبُخلُ أَخوان ، وضَلَعُ الدَّيْن وغلبةُ الرجال أخوان ، فإنَّ المكروه المؤلم إذا ورد على القلب ، فإما أن يكون سببهُ أمراً ماضياً ، فيُوجب له الحزن ، وإن كان أمراً متوقعاً فى المستقبل ، أوجب الهم ، وتخلفُ العبد عن مصالحه وتفويتها عليه ، إما أن يكون مِن عدم القُدرة وهو العجز ، أو من عدم الإرادة وهو الكسل ، وحبسُ خيره ونفعه عن نفسه وعن بنى جنسه ، إما أن يكونَ منعَ نفعه ببدنه ، فهو الجُبن ، أو بماله ، فهو البخل ، وقهرُ النَّاس له إما بحق ، فهو ضَلَعُ الدَّيْن ، أو بباطل فهو غَلبَةُ الرِّجال ، فقد تضمَّن الحديثُ الاستعاذة من كل شَرٍّ .
وأما تأثيرُ الاستغفار فى دفع الهَّمِّ والغَمِّ والضِّـيق ، فلِمَا اشترَكَ فى العلم به أهلُ الملل وعقلاءُ كُلِّ أُمة أنَّ المعاصىَ والفسادَ تُوجب الهَمَّ والغَمَّ ، والخوفَ والحُزن ، وضيقَ الصدر ، وأمراض القلب ، حتى إنَّ أهلها إذا قضَوْا منها أوطارَهم ، وسئمتها نفوسُهم ، ارتكبوها دفعاً لما يَجِدُونه فى صدورهم من الضيق والهَمِّ والغَمِّ ، كما قال شيخُ الفسوق:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
وإذا كان هذا تأثير الذنوب والآثام فى القلوب ، فلا دواءَ لها إلا التوبةُ والاستغفار
وأما الصَّلاةُ .. فشأنها فى تفريح القلب وتقويته ، وشرحِه وابتهاجه ولذَّته أكبرُ شأن ، وفيها من اتصالِ القلب والروح بالله ، وقربه والتنعم بذكره ، والابتهاجِ بمناجاته ، والوقوفِ بين يديه ، واستعمالِ جميع البدن وقُواه وآلاته فى عبوديته ، وإعطاء كل عضو حظَّه منها ، واشتغالهِ عن التعلُّق بالخلق وملابستهم ومحاوراتهم ، وانجذابِ قُوى قلبه وجوارحه إلى ربه وفاطره ، وراحتِه من عدوِّه حالةَ الصلاة ما صارت به من أكبر الأدوية والمفرِّحات والأغذية التى لا تُلائم إلا القلوبَ الصحيحة . وأمَّا القلوبُ العليلة ، فهى كالأبدان لا تُناسبها إلا الأغذية الفاضلة .
فالصلاةُ من أكبر العَوْن على تحصيل مصالح الدنيا والآخرة ، ودفع مفاسد الدنيا والآخرة ، وهى منهاةٌ عن الإثم ، ودافعةٌ لأدواء القلوب ، ومَطْرَدَةٌ للداءِ عن الجسد ، ومُنوِّرةٌ للقلب ، ومُبيِّضَةٌ للوجه ، ومُنشِّطةٌ للجوارح والنفس ، وجالِبةٌ للرزق ، ودافعةٌ للظلم ، وناصِرةٌ للمظلوم ، وقامِعةٌ لأخلاط الشهوات ، وحافِظةٌ للنعمة ، ودافِعةٌ للنِّقمة ، ومُنزِلةٌ للرحمة ، وكاشِفة للغُمَّة ، ونافِعةٌ من كثير من أوجاع البطن .
وقد روى ابن ماجه فى ((سننه)) من حديث مجاهد ، عن أبى هريرة قال : رآنى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائم أشكو مِن وجع بطنى ، فقال لى : ((يا أبا هُرَيْرَة ؛ أشِكَمَتْ دَرْدْ)) ؟ قال : قلتُ : نعم يا رسولَ الله ، قال : ((قُمْ فَصَلِّ ، فإنَّ فى الصَّلاةِ شِفَاءً)) .
وقد رُوى هذا الحديثُ موقوفاً على أبى هُرَيرةَ ، وأنه هو الذى قال ذلك لمجاهد ، وهو أشبهُ . ومعنى هذه اللفظةِ بالفارسى : أيوجعُكَ بطنُكَ ؟
فإن لم ينشرح صدرُ زنديق الأطباء بهذا العلاج ، فيُخاطَبُ بصناعة الطب ، ويقالُ له : الصلاةُ رياضة النفس والبدن جميعاً ، إذ كانت تشتمِلُ على حركات وأوضاع مختلفة مِن الانتصاب ، والركوع ، والسجود ، والتورُّك ، والانتقالات وغيرها من الأوضاع التى يتحرَّك معها أكثرُ المفاصل ، وينغمِزُ معها أكثرُ الأعضاء الباطنة ، كالمَعِدَة ، والأمعاء ، وسائر آلات النَّفَس ، والغذاء ، فما يُنكر أن يكونَ فى هذه الحركات تقويةٌ وتحليلٌ للمواد ، ولا سِيَّما بواسطة قوةِ النفس وانشراحِها فى الصلاة ، فتقوى الطبيعة ، فيندفع الألم .
ولكن داء الزندقةِ والإعراض عما جاءت به الرُّسلُ ، والتَّعوُّضِ عنه بالإلحاد داءٌ ليس له دواء إلا نارٌ تَلَظَّى لاَ يَصْلاَهَا إلاَّ الأشْقَى الَّذِى كَذَّبَ وَتَوَلَّى
وأمَّا تأثيرُ الجهادِ فى دفع الهم والغم ، فأمرٌ معلوم بالوجدان ، فإنَّ النفس متى تركتْ صائِلَ الباطل وصَوْلته واستيلاءَه ، اشتد همُّها وغمُّها ، وكربُها وخوفها ، فإذا جاهدته لله أبدل الله ذلك الهمَّ والحُزْنَ فرحاً ونشاطاً وقوةً ، كما قال تعالى : {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ*وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ}[التوبة : 14-15]، فلا شىءَ أذهبُ لجوَى القلب وغَمِّه وهَمِّه وحُزنه من الجهاد .. والله المستعان .
وأمَّا تأثيرُ ((لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله)) فى دفع هذا الداءِ ، فلِما فيها من كمالِ التفويضِ ، والتبرِّى من الحَوْل والقُوَّة إلا به ، وتسليمِ الأمر كله له ، وعدمِ منازعته فى شىء منه ، وعموم ذلك لكلِّ تحوُّلٍ من حَال إلى حال فى العالَم العُلوىِّ والسُّفلىِّ ، والقوةِ على ذلك التحول ، وأنَّ ذلك كُلَّه باللهِ وحدَه ، فلا يقوم لهذه الكلمة شىء .
وفى بعض الآثار : إنه ما ينزِلُ مَلَكٌ من السماء ، ولا يَصعَدُ إليها إلا بـ ((لاَ حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله)) ، ولها تأثيرٌ عجيب فى طرد الشيطان .. والله المستعان .
نتمنى مشاركة اصدقائك الموضوع في حال اعجبك
مواضيع أخرى |
|||