فى هَدْيه صلى الله عليه وسلم فى الشراب
وهو أنفع للمَعِدَة من كل حلو دخلها ، وإنما يضر بالعَرَض لصاحب الصَّفراء لحدَّتِه وحِدَّة الصفراء ، فربما هيَّجها ، ودفعُ مضرَّته لهم بالخلِّ ، فيعودُ حينئذ لهم نافعاً جداً ، وشربه أنفع من كثير من الأشربة المتخذة من السكر أو أكثرِها ، ولا سِيَّما لمن لم يعتد هذه الأشربة ، ولا ألِفَها طبعُه ، فإنه إذا شربها لا تلائمه ملاءمةَ العسل ، ولا قريباً منه ، والمحكَّمُ فى ذلك العادة ، فإنها تهدم أُصولاً ، وتبنى أُصولاً
وأما الشراب إذا جَمَعَ وصْفَىْ الحلاوة والبرودة ، فمن أنفع شىء للبدن ، ومن أكبر أسباب حفظ الصحة ، وللأرواح والقُوى ، والكبد والقلب ، عشقٌ شديدٌ له ، واستمدادٌ منه ، وإذا كان فيه الوصفانِ ، حصَلتْ به التغذيةُ ، وتنفيذُ الطعام إلى الأعضاء ، وإيصاله إليها أتمَّ تنفيذ .
والماء البارد رطب يقمع الحرارة ، ويحفظ على البدن رطوباته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلَّل منها ، ويُرقِّقُ الغِذاء ويُنفِذه فى العروق .
واختلف الأطباء : هل يُغذِّى البدن ؟ على قولين : فأثبتت طائفةٌ التغذية به بناءً على ما يشاهدونه من النمو والزيادة والقوة فى البدن به ، ولا سِيَّما عند شدة الحاجة إليه .
قالوا : وبينَ الحيوانِ والنبات قدرٌ مشترك مِن وجوه عديدة منها : النموُّ والاغتذاءُ والاعتدال ، وفى النبات قوةُ حِسٍّ تُناسبه ، ولهذا كان غِذاءُ النبات بالماء ، فما يُنكر أن يكون للحيوان به نوعُ غذاء ، وأن يكون جزءاً من غذائه التام .
قالوا : ونحن لا ننكر أنَّ قوة الغذاء ومعظمه فى الطعام ، وإنما أنكرنا أن لا يكون للماء تغذية ألبتة . قالوا : وأيضاً الطعام إنما يُغذِّى بما فيه من المائية ، ولولاها لما حصلت به التغذيةُ .قالوا : ولأن الماء مادة حياة الحيوان والنبات ، ولا ريب أنَّ ما كان أقربَ إلى مادة الشىء ، حصلت به التغذية ، فكيف إذا كانت مادته الأصلية ، قال الله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَىْءٍ حَىٍّ}[الأنبياء : 30]، فكيف ننكِرُ حصولَ التغذية بما هو مادة الحياة على الإطلاق ؟
قالوا : وقد رأينا العطشان إذا حصل له الرِّىُّ بالماء البارد ، تراجعت إليه قواه ونشاطُه وحركته ، وصبرَ عن الطعام ، وانتفع بالقدر اليسير منه ، ورأينا العطشانَ لا ينتفِعُ بالقدرِ الكثير مِن الطعام ، ولا يجد به القوة والاغتذاءَ ، ونحن لا ننكِرُ أنَّ الماءَ يُنفِذُ الغذاء إلى أجزاء البدن ، وإلى جميع الأعضاء ، وأنه لا يتم أمر الغذاء إلا به ، وإنما ننكر على مَن سلب قوةَ التغذية عنه ألبتة ، ويكاد قولُه عندنا يدخُل فى إنكار الأُمورالوجدانية .
وأنكرت طائفةٌ أُخرى حصولَ التغذية به ، واحتجَّت بأُمور يرجعُ حاصِلُها إلى عدم الاكتفاء به ، وأنه لا يقومُ مقام الطعام ، وأنه لا يزيد فى نموِّ الأعضاء ، ولا يخلف عليها بدل ما حلَّلتْه الحرارةُ ، ونحو ذلك مما لا ينكره أصحاب التغذية ، فإنهم يَجعلون تغذيته بحسب جوهره ، ولطافته ورقته ، وتغذيةُ كل شىء بحسبه ، وقد شُوهد الهواءُ الرَّطب البارد اللَّين اللَّذيذ يُغذِّى بحسبه ، والرائحة الطيبة تُغذِّى نوعاً من الغذاء ، فتغذية الماء أظهر وأظهر .
والمقصودُ : أنه إذا كان بارداً ، وخالطه ما يُحليه كالعسل أو الزبيب ، أو التمر أو السكر ، كان من أنفع ما يدخل البدن ، وحفِظَ عليه صحته ، فلهذا كان أحبُّ الشرابِ إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلم البارِدَ الحلوَ . والماءُ الفاتِرُ ينفخ ، ويفعل ضدَّ هذه الأشياء .
ولما كان الماء البائت أنفعَ من الذى يُشرب وقتَ استقائه ، قال النبىُّ صلى الله عليه وسلم وقد دخل إلى حائط أبى الهيثم بن التيهان : ((هَلْ من ماءٍ بات فى شَـنَّة)) ؟ فأتاه به، فشرب منه ، رواه البخارى ولفظُه : ((إنْ كان عِنْدَكَ ماءٌ باتَ فى شَنَّة وإلاَّ كَرَعْنَا)) .والماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذى شُرِب لوقته بمنزلة الفطير ، وأيضاً فإنَّ الأجزاء الترابية والأرضية تُفارقه إذا بات ، وقد ذُكِر أنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كان يُسْتَعْذَبُ له الماء ، ويَختار البائت منه . وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُستقى له الماء العذب مِن بئر السقيا .
والماء الذى فى القِرَب والشنان ، ألذُّ من الذى يكون من آنية الفَخَّار والأحجار وغيرهما ، ولا سِيَّما أسقيةَ الأدمَ ، ولهذا التَمسَ النبىُّ صلى الله عليه وسلم ماءً بات فى شَـنَّة دون غيرها من الأوانى ، وفى الماء إذا وُضع فى الشِّنان ، وقِرب الأدم خاصةٌ لطيفةٌ لما فيها من المسامِّ المنفتحةِ التى يرشَح منها الماء ، ولهذا كان الماء فى الفَخَّار الذى يرشح ألذُّ منه ، وأبردُ فى الذى لا يرشَح ، فصلاةُ الله وسلامه على أكمل الخلق ، وأشرفهم نفساً ، وأفضلهم هَدْياً فى كل شىء ، لقد دَلَّ أُمته على أفضل الأُمور وأنفعها لهم فى القلوب والأبدان ، والدُّنيا والآخرة
قالت عائشةُ : كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحُلوَ البارِدَ . وهذا يحتمل أن يريد به الماءَ العذبَ ، كمياه العيون والآبار الحلوة ، فإنه كان يُستعذَب له الماء . ويحتملُ أن يريد به الماءَ الممزوجَ بالعسل ، أو الذى نُقِعَ فيه التمرُ أو الزبيبُ . وقد يُقال وهو الأظهر : يعمُّهما جميعاً
وقولُه فى الحديث الصحيح : ((إن كان عندكَ ماء باتَ فى شَنٍ وإلا كَرَعْنَا)) ، فيه دليلٌ على جواز الكَرْع ، وهو الشرب بالفم من الحوضِ والمِقْراةِ ونحوها ، وهذه والله أعلم واقعةُ عَيْن دعت الحاجةُ فيها إلى الكَرْع بالفم ، أو قاله مبيِّناً لجوازه ، فإنَّ مِن الناس مَنْ يكرهُه ، والأطباءُ تكادُ تُحَرِّمُه ، ويقولون : إنه يَُضرُّ بالمَعِدَة ، وقد رُوى فى حديث لا أدرى ما حالُه عن ابن عمر ، أنَّ النبىَّ صلى الله عليه وسلم نهانا أنْ نشرب على بطوننا ، وهو الكَرْعُ ، ونهانا أنْ نغترِفَ باليد الواحدة وقال :
(( لا يَلَغْ أحدُكُم كَمَا يَلَغُ الكلبُ ، ولا يَشْرَبْ باللَّيْلِ مِن إنَاءٍ حَتَّى يَختبِرَه إلا أنْ يكونَ مُخَمَّراً ))
وحديثُ البخارى أصحُّ من هذا ، وإن صحَّ ، فلا تعارُضَ بينهما ، إذ لعلَّ الشربَ باليد لم يكن يمكن حينئذٍ ، فقال : ((وإلا كَرَعْنا)) ، والشربُ بالفم إنما يضرُّ إذا انكبَّ الشارِبُ على وجهه وبطنه ، كالذى يشربُ من النهر والغدِير ، فأمَّا إذا شرب مُنتصِباً بفمه من حوض مرتفع ونحوِه ، فلا فَرْقَ بين أن يشرب بيده أو بفمه .
نتمنى مشاركة اصدقائك الموضوع في حال اعجبك
مواضيع أخرى |
|||